حينما يُذكر اسم الشهيدة دلال المغربي تسري رعشة غريبة في جسد كل مواطن فلسطيني، ويشعر بالفخر والزهو، وتنتابه أيضاً حالة من الثورة والرغبة بالانتقام لمقتلها وهي التي سطرت ملحمة بطولية لا تزال الأجيال الفلسطينية تتدارسها وتتعلم منها، وظلت على الدوام ملهمةً للكثير من المقاومين الذين اتخذوها مثلاً أعلى عندما يتعلق الأمر بمواجهة من احتل بلادهم وحولهم إلى مشردين ومشتتين في أصقاع الأرض. كثيرون من أبناء هذا الجيل من الشباب الفلسطيني لم يكونوا قد ولدوا بعد حينما نفذت المغربي وثلة من المناضلين الفلسطينيين والعرب العملية الشهيرة التي حملت اسم الشهيد الراحل "كمال عدوان" وتمكنت المجموعة المنفذة خلالها من التسلل إلى إسرائيل قادمة من لبنان عبر البحر ..
قبل أن تسيطر على حافلة عسكرية وتتوجه إلى مدينة تل أبيب جنوباً لمهاجمة مبنى الكنيست، إلا أن إسرائيل بأكملها في ذلك الوقت واجهت المناضلة الفلسطينية ومجموعتها، وضحت بأرواح من تقلهم الحافلة مقابل إيقافها قبل الوصول إلى الهدف المنشود، وهو ما حصل بعد ساعات من المواجهة، إذ استشهدت دلال ومعظم رفاقها بعد أن قتلوا وأصابوا العشرات من الإسرائيليين.
لم يكن الحدث عادياً في تلك الحقبة، فإسرائيل كانت في أوج قوتها، وكان جيشها قد وصل إلى مراحل متقدمة من الجهوزية، وكان دوره مقتصراً على الهجوم والمواجهة في الخارج، ولم يكن يخطر على بال أحد أن مواجهة كهذه ستحصل في قلب إسرائيل، ومع مجموعة تقودها امرأة قادمة من مخيمات اللجوء والتشرد في لبنان؛ تلك المخيمات كانت عرضة لهجمات إسرائيلية متلاحقة تكبدت فيها المقاومة الفلسطينية التي كان يقودها الشهيد "أبو جهاد" خسائر كبيرة وموجعة بلغت ذروتها باستشهاد القائد الكبير كمال عدوان، مع رفيقيه كمال ناصر ومحمد يوسف النجار بعد عملية تسلل لفرقة كوماندوز إسرائيلية كان يقودها وزير الحرب الإسرائيلي الحالي ايهود بارك، الذي تخفى في زي امرأة وتمكن من قتل القادة الثلاثة برصاص كاتم للصوت، وداخل بيوتهم في ليلة مشهودة، تأجج بعدها الغضب وكان لا بد من رد قاس على هذه العملية، وتلك كانت البداية لعملية دلال المغربي وبتخطيط مباشر من أبو جهاد.
لم يكن اختيار دلال المغربي لقيادة المجموعة أمراً اعتباطياً، بل جاء وفقاً لمعطيات كثيرة كان أهمها الرغبة الشديدة لها بالقيام بعملية نوعية تتمكن فيها للمرة الأولى والأخيرة في حياتها من ملامسة تراب الوطن المحتل، لكن الأهم من ذلك كان رغبة أبو جهاد حينها بجعل امرأة هي من يقود العملية رداً على العملية التي قادها باراك متنكراُ بزي امرأة، وكأنه أراد إيصال رسالة مفادها انك إن كنت يا باراك تحولت إلى امرأة لكي تتمكن من تنفيذ عمليتك، فإننا نملك من النساء الحقيقيات من يقدرن على القيام بأكثر من ذلك، وفي عقر دارك.
ولأن باراك عُرف دائماً بأنه "رجل المهمات القذرة" اُوكلت إليه مهمة إيقاف الحافلة التي تقل الشهيدة دلال ورفاقها ومن معهم من الرهائن الإسرائيليين، وعندما أصبحت على مشارف الكنيست أمر بايقافها بأي ثمن مضحياً بأرواح مواطنيه وجنوده المكدسين داخل الحافلة، والذين لم يكونوا حتى قبل تلك اللحظة قد تعرضوا لأي تهديد، بل قال بعض الذين بقوا منهم على قيد الحياة إن دلال المغربي خاطبتهم قائلة "إننا لا نريد قتلكم، بل نجتزكم كرهائن من اجل تخليص إخوتنا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة".
جرت مواجهة عنيفة بين الفدائيين بقيادة المغربي والجيش الإسرائيلي، لكنها لم تكن مواجهة متكافئة، إذ نفذت الذخيرة من الفدائيين وسقط معظمهم شهداء ومن بينهم دلال التي أصيبت بعدة رصاصات في رقبتها فارقت على أثرها الحياة، وانتهت العملية دون إعلان إسرائيل عن الرقم الحقيقي لعدد قتلاها الذي ظل حتى يومنا هذا غير معروف، ويكتنفه الكثير من الغموض، فيما وقع بعض الفدائيين في الأسر وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة.
حتى لحظة انتهاء العملية لم يكن باراك يعلم من هو القائد الذي تجرأ على القيام بها والوصول إلى هذا المكان، لكنه أصيب بالذهول عندما علم من أحد الجرحى الفلسطينيين بعد التحقيق معه أن القائد هو دلال المغربي، فما كان منه إلا أن جرها من شعرها على مرأى جنوده وأمام شاشات التلفزيون قبل أن يمثّل بجثتها دون أن يرف له جفن رغم أنها كانت بلا روح ومدرجة بدمائها، وهو مشهد يؤكد مدى حقد هذا الرجل الذي ولغ في دماء الفلسطينيين على مدى أربعين عاماً، وها هو الآن يكافئ بالسلام والقبلات الحارة من زعماء الدول العربية، وقبلهم الزعماء الفلسطينيين الذين نسوا أو تناسوا تضحيات دلال المغربي وبطولاتها.
جثمان دلال المغربي ظل طوال تلك السنين محتجزاً في إسرائيل، وقيل الكثير عما تعرض له من إهانة، وصلت إلى درجة تحنيطه ووضعه في أحد المعاهد ليصبح مزاراً للطلاب والطالبات اليهود لاستذكار بطولات جنودهم وقادتهم وعلى رأسهم باراك بعدما تمكنوا من قتلها وإضافة انتصار جديد إلى قائمة الانتصارات التي حققتها الدولة العبرية!.
لكنها أيام فقط، ويعود جثمان الشهيدة دلال المغربي بعد طول غياب إلى مسقط رأسها في أحد مخيمات لبنان، بموجب صفقة التبادل التي أبرمها حزب الله مع إسرائيل، ليصبح الآن وبعد مرور كل تلك السنوات بمقدور من تبقى من أهلها وذويها إلقاء نظرة الوداع على جسدها الطاهر، ويصبح أيضاً بمقدور زعماءنا وقادتنا استعادة بعضاً من ذكريات الكرامة التي غادرتهم منذ زمن ولم تعد تعني لهم شيئاً.